خلال مطالعتنا لكتب الفقه التاريخية وجدنا أن الفقهاء لم يفرقوا إطلاقاً بين الطاعة المتصلة للرسول (ص) وبين الطاعة المنفصلة، فالطاعة المتصلة هي التي جاءت بقوله تعالى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} أي طاعة واحدة لله والرسول، وينطبق عليها {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وتعني اﻷمور التي لها علاقة بالتنزيل الحكيم فقط وخاصة في المحرمات والشعائر. أما الطاعة المنفصلة فهي التي تم فصل طاعة الرسول فيها عن طاعة الله كما في قوله تعالى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}، أي طاعته بصفته ولي أمر في عصره. فلاحظوا عندما فصل طاعة الرسول وضع معه أولي اﻷمر، ولو كانت طاعة واحدة – وهذا ما أراده الفقهاء – لكانت طاعة أولي اﻷمر كطاعة الرسول في الصلاة والصوم وغيرها جزءاً ﻻ يتجزأ من الدين، وأعتقد أنهم أغفلوا الفرق قاصدين ذلك.
لقد ورد في التنزيل الحكيم طاعتان للرسول (ص)، طاعة متصلة وطاعة منفصلة، وكلتاهما لا تكون إلا من مقام الرسالة، أو بمعنى آخر للتشريعات التي سنّها الله في محكم تنزيله (طاعة متصلة)، وللتشريعات التي سنّها الرسول (ص) وفق السلطة التشريعية التي كانت بيده (طاعة منفصلة)، لأن الطاعة لا تكون إلا للقانون وعلى هذا الأساس جاء قوله {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، وبالتالي عندما ربط الله طاعة الرسول (ص) بطاعة أولي الأمر لم يقصد أبداً طاعة السلطة التنفيذية التي تملك أداة الإكراه في الحكم، بل كان قصده الأساسي – وهو المقصد الأسمى للرسالة المحمدية – هو طاعة القانون، أي السلطة التشريعية في ما تسنّه من قوانين، لأن اتّباع القانون يكون بصفة طوعية اختيارية على عكس طاعة السلطة التنفيذية التي لا تكون إلا بالإكراه.
في ضوء هذا كله نفهم أن أولي الأمر هم أهل السلطة التشريعية في المجتمع، وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن مصطلح “أولو الأمر” الوارد في التنزيل لا علاقة له بالملوك والأمراء والسلاطين والولاة وأصحاب السلطة التنفيذية (من بيده أداة الإكراه)، بل يعني طاعة من بيده السلطة التشريعية بالامتثال لقوانينه، حيث يحصل ذلك بكل طواعية واختيارية، وكما قلنا سابقاً نحن حين نطيع شرطي السير نطيع قانون السير وليس الشرطي كشخص، أي الطاعة للقانون وليس لمالك أداة الإكراه، – وعندما قال {أُولِي الْأَمْرِ } قال {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} وكونه عطفها على الرسول، والتشريع من الرسالة، فأولي اﻷمر منا يجب أن يكونوا اﻷعضاء المنتخبين في البرلمان ﻷنهم منا، والطاعة للقانون وليس لمالك سلطة اﻹكراه – والله تعالى يقول على لسان الكافرين {َقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا* رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} (الأحزاب – ٦٧، ٦٨)، والمتأمل في هاتين الآيتين يجد أن طاعة السادة والكبراء تقوم على الإكراه لأنهم يملكون السلطة التنفيذية، بينما طاعة الله والرسول وأولي الأمر (السلطة التشريعية) هي طاعة اختيارية طوعية، فالطاعة تكون للقانون وليس لمالك أداة الإكراه، وإلا فلعن الكافرين لسادتهم يصبح غير مبرر، وهذه مهزلة كبيرة في البلدان التي يحق فيها لرأس السلطة التنفيذية أن يصدر مراسيم تشريعية.
لذا فإن أولى اﻷولويات أن يكون من بيده السلطة التنفيذية (أداة الإكراه) ﻻ يحق له التشريع إطلاقاً، ومالك السلطة التشريعية {أُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} ﻻيحق له امتلاك أداة اﻹكراه (السلطة التنفيذية). فإذا كان رئيس الجمهورية هو رئيس السلطة التنفيذية فلا يحق له إصدار المراسيم التشريعية.
هنا قد يسأل سائل فيقول: إذا كانت اجتهادات الرسول من مقام النبوّة مُتابَعة ومُوجَّهة إلهياً فمن المعقول أن يأمر التنزيل الحكيم بطاعة الرسول فيها طاعة منفصلة وإن كانت من مقام الرسالة، لكن كيف يأمر بطاعة أولي الأمر – أي أصحاب السلطة التشريعية في المجتمع -، في اجتهاداتهم التي قد تحتمل الصواب والخطأ لأنها تدخل في إطار الاجتهاد الإنساني النسبي وهي غير مُوجَّهة إلهياً؟
فيكون الرد بأن الله عز وجل في محكم تنزيله أمر بطاعة أصحاب السلطة التشريعية في المجتمع لضبط النظام في المجتمع حتى لا تعمّ الفوضى فيه، بحيث تكون هذه الطاعة أولاً: منفصلة، أي في حياتهم فقط في ما سنّوه من قوانين قابلة للتعديل والإلغاء، وثانياً: تكون هذه الطاعة طوعية اختيارية باتّباع تشريعاتهم الناتجة من اجتهاداتهم عند التزامهم بما جاء في التنزيل الحكيم بعدم الخروج عن أركان الرسالة.
وعند خروج من بيدهم السلطة التشريعية عن الرسالة الإلهية وقمعهم للناس بقوانين جائرة أو تعسّفهم في استعمال السلطة التي بين أيديهم، هنا جعل الله مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كأحد أركان الرسالة، حتى يتمكن المجتمع – في حال إحساسه بوقوع ظلم عليه من السلطة التشريعية – من ممارسة هذا المبدأ معهم لإعادتها إلى الطريق السليم. لهذا فإن أمر طاعة أولي الأمر الوارد في التنزيل الحكيم ليس مطلقاً، بل مرتبط بمدى التزام من بيده السلطة التشريعية بأركان الرسالة الواردة في أم الكتاب وحرصه على تطبيقها بمنهج حنيفي من خلال نظرية الحدود، وبالتزام السلطة التنفيذية بما يصدر من تشريعات، وبالتالي فللمجتمع الحق في الاعتراض على السلطة التشريعية في القوانين التي تسنّها والتي يرى فيها خروجاً عن أركان الرسالة أو ظلماً واقعاً عليه منها، والاحتجاج على السلطة التنفيذية التي تسيء استعمال التشريعات، أو لا تلتزم بها.
أما آلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمتغيرة حسب الزمان والمكان والتطور التاريخي للمجتمعات، حيث نجد الآن النقابات ومؤسسات المجتمع المدني والجمعيات ووسائل الإعلام النزيه، من صحافة وقنوات فضائية، وحرية التعبير والتظاهر السلمي. هذه كلها آليات حديثة لممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إن كل هذه الأطراف لا تملك أداة الإكراه.
وفق ما ذُكِر، نتوصل إلى نتيجة في غاية الأهمية هي أن طاعة السادة والكبراء طاعة قهرية، بينما طاعة الله والرسول وأولي الأمر (السلطة التشريعية) طاعة اختيارية طوعية، أي ما يقال عنه الآن: طاعة القانون في دولة القانون. فثمّة فرق هائل بين الطاعتين، والحد الفاصل بين الطاعتين هو البيعة أو ما يسمى اليوم البرنامج الانتخابي الذي يوافق عليه أفراد المجتمع، فهو بمثابة العقد الاجتماعي الذي يُتَّفق عليه ومن خلاله تمارس كل سلطة صلاحياتها».