ذكرنا فيما سبق من بحث أن معاملات الوقف تتعلق بأعمال الخير والبر والصدقات والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى , لذلك نجد أن هذه المعاملات كانت محكومة بجملة من الآراء والفتاوى التي تستند في وجودها إلى قواعد وأحكام الشريعة الإسلامية , كما نج إن هذا الحكم يسري على التصنيفات التي صنف الفقهاء الوقف وفقها ، وهو امتد ليطال الأحكام الموضوعية التي كانت ولا زالت مما يُطبق على الوقف. وذكرنا أن هذه الآراء كانت ولا زالت مما يحكم الوقف , حتى البدء بظهور التشريعات الوضعية , حيث حافظت هذه التشريعات مع بعض التعديل على الأحكام القانونية للوقف , وخصوصاَ تلك المستمدة من الشريعة الإسلامية. ومما يُلاحظ في هذا الخصوص أنه ومع بدء ظهور التشريعات الوضعية , بدأت حركة تشريعية خاصة بالوقف , حيث بدأت هذه الحركة بداية من العهد الذي سيطرت فيه الدولة العثمانية على البلاد العربية مروراَ بالاستعمار الفرنسي وصولاَ للحكومات الوطنية التي تعاقبت على حكم البلاد العربية ومنها الدولة السورية. ففي أيام سيطرة الدولة العثمانية كان الوقف محكوماَ بالنصوص والقواعد الشرعية المستمدة من الفقه الإسلامي ، تبعاَ لكون الوقف بسبب طبيعته من أعمال البر والخير , وفيما تلا من تاريخ بدأ الولاة بمنح الأراضي وتوزيعها على الاتباع والموالين , فظهر ما بات يعرف بمصطلح الأراضي الأميرية , حيث عم وانتشر هذا النوع من الأراضي , حتى بات تقريباَ يشمل معظم الأراضي التي دانت فيها السيطرة للعثمانيين , عند ذلك ولمكافحة هذه الظاهرة بدأت تظهر تشريعات وقرارات سلطانية تحد من انتشار هذا النوع من الأراضي , حتى الساعة التي صدر فيه تشريع قضى بالاستيلاء على هذه الأراضي , ولكون الدولة العثمانية كانت دولة قائمة على الأساس الديني , نجد أنها كانت تحترم معاملات الوقف والأراضي التابعة له , كما كانت تحترم وتخشى التعرض للوقف وإرادة وشروط الواقفين , عند ذلك واستغلالاَ لهذا النهج وبغاية التهرب من آثار هذا الاستيلاء , نجد أن الكثير من السلاطين والأمراء والميسورين من الناس , راحت تسرع في وقف أراضيها على جهات البر والخير , حتى صدر قانون الأراضي العثماني في عام ( 1274 ) هجري. قانون الأراضي العثماني قسم الأراضي إلى خمسة أقسام رئيسية , وتبعاَ للأهمية التي كانت للوقف في ذلك الحين ، هذا القانون بموجب المادة الأولى منه جعل الأراضي الموقوفة أحد أهم هذه الأنواع , كما أنه بمجموع مواده كان قد أفرد أحكاماَ خاصة بالوقف , حيث بين الأحكام الخاصة بانتقال أراضي الوقف والأحكام الخاصة بكافة المعاملات التي من الممكن أن تجري على أراضيه. ولكن مما يُلاحظ على هذا القانون أنه ولمحاربة ظاهرة وقف الأراضي الأميرية التي عمت وسادت , هو وبموجب المادة ( 121 ) منه لم يجيز وقف مثل هذه الأراضي إلا بإذن سلطاني كان يعرف بـ ( ملكنامه ) ولأجل ذلك هي نصت على التالي :
[ لا يقدر أحد أن يقف أرضه المتصرف بها بالطابو إلى جهة ما , مالم تتملك له تملكاَ صحيحاَ بملكنامه همايوني من الطرف الملوكي ].
ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا الحكم استمر حتى تاريخ صدور القانون المدني السوري في عام ( 1949 ) حيث نصت المادة ( 774 ) منه على التالي :
[ ليس للمتصرف في عقار أميري أن ينشئ عليه وقفاَ , كل وقف ينشأ على عقار أميري يعد باطلاَ.]
ولكن من الطبيعي أنه وقبل صدور هذين النصين التشريعيين , كان قد حصل الكثير من الوقف الذي كان يطال الأراضي الأميرية , حيث لم يمس هذا النص بها ، بسبب عدم رجعية القوانين في مثل هذه الحالات. وتاريخياَ مع ظهور هذا النص وبسبب ما كان يدور حول أموال الوقف من خلافات بين المستحقين , من ذراري الواقفين وبين جهات البر والخير , وبسبب تشعب الأحكام والقواعد الشرعية الخاصة بالوقف , التي كانت تحكم الوقف فيما سبق , نجد أنه بدأت جملة من الخلافات بين الجهات المشرفة على الوقف من طرف , وبين الواقفين من طرف أخر , وبين المستحقين لجزء من عائدات الوقف من طرف ثالث , فبات الكثير من الواقفين يقيمون الدعاوي لإثبات صحة ما أوقفوه من أراضي , وكذلك بدأ المستحقون يقيمون دعاوي مماثلة لإثبات صحة ما تم وقفه عليهم , كما بدأت الجهات المشرفة على الوقف تقيم دعاويها الخاصة لإثبات حقوقها على هذه الأموال الموقوفة , مما أفرز الكثير من الخلافات والإشارات التي كانت تُوضع في معرض مثل هذه الدعاوي , بغية حماية حقوق الواقفين أو المستحقين أو حقوق الجهات المشرفة على إدارة واستثمار الوقف. ولكن أهم سبب زاد في حدة هذه الخلافات هو كثرة الآراء الفقهية التي كانت ولازالت تحكم الوقف , وكثرة وتعدد أنواع الوقف وتصنيفاته المختلفة , وكثرة الحقوق التي كان يرتبها النظام القانوني للوقف على الأراضي الوقفية فضلاَ عما أثير من خلافات شرعية وقضائية حول هذه المعاملات , الأمر الذي أفرز الكثير من القيود والإشارات التي كانت توضع على صحائف عقارات الوقف , مما كان يحفظ ويبين حقوق كل من له علاقة بمثل هذه الحقوق.