ذكرنا فيما سبق من بحث أن الوقف مستحب ومندب إليه , لتعلقه بأعمال البر والخير والصدقات وأعمال التقرب إلى الله سبحانه وتعالى , وهو لأجل هذه الغاية قديم يعود في التاريخ إلى فجر الإسلام , وهو بمثل هذه الصفات ولأسباب دينة وسياسية واجتماعية وحكومية , كان قد عم وانتشر وخصوصاَ إبان سيطرة السلطنة العثمانية على البلاد العربية فخلال هذه السيطرة كثرت ولأسباب مختلفة أعمال البر والخير والصدقات , فراح السلاطين والأمراء وميسوري الحال , يوقفون ما يملكون من أموال غير منقولة على ذراريهم وعلى جهات الخير المختلفة وباعتبار أن أغلب الأملاك العقارية العائدة لهؤلاء , كانت عبارة من أراضي أميرية , استولوا عليها بحكم أنهم باتوا الحاكمين للبلاد العربية أو وزعوها على أتباعهم لكسب الولاء لهم. لذلك نجد أن الوقف بأنواعه المختلفة قد زاد وعم وانتشر في هذه الآونة , هذا الوقف في البداية ومن وجهة نظر قانونية كان محكوماَ بالشريعة الإسلامية , التي كانت تطبق على المعاملات في تلك الفترة الزمنية , لذلك نجد إن الفقهاء صنفوا الأوقاف إلى أكثر من صنف فمنها الأوقاف الصحيحة والأوقاف غير الصحيح والأوقاف العشرية أو ما يُعرف بـ ( التخصيصات ) ومنها الأوقاف الخيرية والأوقاف الذرية والأوقاف المشتركة ومنها الأوقاف المضبوطة والأوقاف الملحقة. وكما هو معلوم وفي تاريخ لاحق وعندما بدأت مسألة تنظيم الدول وبدأت الشرائع الوضعية بالظهور بغاية تنظيم المعاملات بين الناس , فكان الوقف مما تم تنظيمه وإخضاعه لهذه الشرائع. ومن المعلوم أن الأوقاف السورية كانت تخضع في تنظيمها وإدارتها للكثير من القرارات الناظمة لهذا المعاملات مما كان قد صدر عن الدولة العثمانية أو عن المستعمر الفرنسي , ومما هو مستمد من الشرع الإسلامي , حيث استمر العمل على هذا المنوال حتى عام 1961 حيث صدر المرسوم التشريعي رقم ( 204 ) لعام 1961 حيث جرى تنظيم عمل وزارة الأوقاف السورية بموجب هذا القانون. المرسوم التشريعي رقم ( 204 ) لعام 1961 بموجب الفقرة ( أ ) من المادة الأولى منه نص على أن الأوقاف الإسلامية في الجمهورية العربية السورية , هي ملك لجميع المسلمين , وتتولى إدارتها وشؤونها والإشراف عليها وزارة الأوقاف , أما الفقرة ( ب ) من هذه المادة فقد نصت على أن تشمل الأوقاف الإسلامية وأموالها ما يلي : ١ ) الأوقاف الخيرية وعلى الأخص الأوقاف المنشأة لجهة من جهات الخير المحضة , كالجوامع والتكايا والزوايا ودور التوحيد والمدارس والكتاتيب والمكتبات والرباطات ( دور الضيافة ) والبيمارستانات ( دور الشفاء ) والحياض والسبلان والمقابر والمقامات والمزارات , وما شابهها , ويلحق بها جميع العقارات والأموال المنقولة وغير المنقولة الموقوفة على الجهات المذكورة في حالتها الحاضرة وبدلاتها في حالة اندراسها أو هدمها.
٢ ) الأوقاف المضبوطة أو المعتبرة منها وقت صدور هذا المرسوم التشريعي.
٣ ) الأوقاف غير الصحيحة وغير المشروطة.
٤ ) التخصيصات والإعانات المتعلقة بالأوقاف المدورة والخيرية.
٥ ) العوائد الثابتة المحولة أو التي ستحول وتحدد عن حاصل الأعشار أو غيرها من المداخيل العمومية المخصصة للأوقاف الخيرية.
٦ ) الأوقاف الخيرية التي يكون نصب المتولي عليها مفوضاَ إلى رأي القاضي الشرعي أو المدني أو الحاكم الإداري أو غيرهم ممن لا علاقة شخصية لهم بالوقف.
٧ ) أوقاف الحرمين الشريفين.
٨ ) أملاك وأوقاف وأموال الجمعية الخيرية الإسلامية المنحلة.
٩ ) الأوقاف الإسلامية التي آلت إلى الخير , والأوقاف والجوامع والمساجد والمؤسسات الخيرية المسجلة باسم خزينة الدولة وأملاك الدولة أو البلديات وغيرها من الإدارات العامة.
١٠ ) الأوقاف الذرية التي قامت أو تقوم الدوائر الوقفية بإدارتها مدة خمس عشرة سنة ولم يطالب بها تولية أو استحقاقاَ.
١١ ) أموال المستحقين من الأوقاف الذرية التي يمضي المصفاة التي يمضى خمس عشرة سنة على استلامها دون أن يطالب بها مستحقوها.
اما الفقرة ( ج ) من المادة الأولى من هذا المرسوم التشريعي فقد نصت على أن تنتقل ملكية الأوقاف المفصلة في الفقرة ( ب) السابقة حكماَ إلى وزارة الأوقاف وتسجل باسم الدائرة الوقفية التي تعينها الوزارة. هذا وقد استمر العمل وفق هذا النهج حتى عام 2018 حيث عاد المشرع السوري فأصدر المرسوم التشريعي رقم ( 16 ) لعام 2018 تولى بموجبه ومن جديد تنظيم عمل وزارة الأوقاف , فأحدث ثورة قانونية فيما يخص أموال الوقف , ومن ثم وفي نفس العام عاد المشرع فأصدر القانون رقم ( 31 ) لعام 2018 تولى بموجبه تنظيم نفس الشأن مع بعض التعديل على أحكام المرسوم التشريعي رقم ( 16 ) العام 2018 وهو إن شاء الله ما ستكون لنا معه وقفة خاصة مستقبلاَ , وخصوصاَ فيما يتعلق بموضوع بحثنا هذا.
ذكرنا فيما سبق من بحث أن معاملات الوقف تتعلق بأعمال الخير والبر والصدقات والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى , لذلك نجد أن هذه المعاملات كانت محكومة بجملة من الآراء والفتاوى التي تستند في وجودها إلى قواعد وأحكام الشريعة الإسلامية , كما نج إن هذا الحكم يسري على التصنيفات التي صنف الفقهاء الوقف وفقها ، وهو امتد ليطال الأحكام الموضوعية التي كانت ولا زالت مما يُطبق على الوقف. وذكرنا أن هذه الآراء كانت ولا زالت مما يحكم الوقف , حتى البدء بظهور التشريعات الوضعية , حيث حافظت هذه التشريعات مع بعض التعديل على الأحكام القانونية للوقف , وخصوصاَ تلك المستمدة من الشريعة الإسلامية. ومما يُلاحظ في هذا الخصوص أنه ومع بدء ظهور التشريعات الوضعية , بدأت حركة تشريعية خاصة بالوقف , حيث بدأت هذه الحركة بداية من العهد الذي سيطرت فيه الدولة العثمانية على البلاد العربية مروراَ بالاستعمار الفرنسي وصولاَ للحكومات الوطنية التي تعاقبت على حكم البلاد العربية ومنها الدولة السورية. ففي أيام سيطرة الدولة العثمانية كان الوقف محكوماَ بالنصوص والقواعد الشرعية المستمدة من الفقه الإسلامي ، تبعاَ لكون الوقف بسبب طبيعته من أعمال البر والخير , وفيما تلا من تاريخ بدأ الولاة بمنح الأراضي وتوزيعها على الاتباع والموالين , فظهر ما بات يعرف بمصطلح الأراضي الأميرية , حيث عم وانتشر هذا النوع من الأراضي , حتى بات تقريباَ يشمل معظم الأراضي التي دانت فيها السيطرة للعثمانيين , عند ذلك ولمكافحة هذه الظاهرة بدأت تظهر تشريعات وقرارات سلطانية تحد من انتشار هذا النوع من الأراضي , حتى الساعة التي صدر فيه تشريع قضى بالاستيلاء على هذه الأراضي , ولكون الدولة العثمانية كانت دولة قائمة على الأساس الديني , نجد أنها كانت تحترم معاملات الوقف والأراضي التابعة له , كما كانت تحترم وتخشى التعرض للوقف وإرادة وشروط الواقفين , عند ذلك واستغلالاَ لهذا النهج وبغاية التهرب من آثار هذا الاستيلاء , نجد أن الكثير من السلاطين والأمراء والميسورين من الناس , راحت تسرع في وقف أراضيها على جهات البر والخير , حتى صدر قانون الأراضي العثماني في عام ( 1274 ) هجري. قانون الأراضي العثماني قسم الأراضي إلى خمسة أقسام رئيسية , وتبعاَ للأهمية التي كانت للوقف في ذلك الحين ، هذا القانون بموجب المادة الأولى منه جعل الأراضي الموقوفة أحد أهم هذه الأنواع , كما أنه بمجموع مواده كان قد أفرد أحكاماَ خاصة بالوقف , حيث بين الأحكام الخاصة بانتقال أراضي الوقف والأحكام الخاصة بكافة المعاملات التي من الممكن أن تجري على أراضيه. ولكن مما يُلاحظ على هذا القانون أنه ولمحاربة ظاهرة وقف الأراضي الأميرية التي عمت وسادت , هو وبموجب المادة ( 121 ) منه لم يجيز وقف مثل هذه الأراضي إلا بإذن سلطاني كان يعرف بـ ( ملكنامه ) ولأجل ذلك هي نصت على التالي :
[ لا يقدر أحد أن يقف أرضه المتصرف بها بالطابو إلى جهة ما , مالم تتملك له تملكاَ صحيحاَ بملكنامه همايوني من الطرف الملوكي ].
ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا الحكم استمر حتى تاريخ صدور القانون المدني السوري في عام ( 1949 ) حيث نصت المادة ( 774 ) منه على التالي :
[ ليس للمتصرف في عقار أميري أن ينشئ عليه وقفاَ , كل وقف ينشأ على عقار أميري يعد باطلاَ.]
ولكن من الطبيعي أنه وقبل صدور هذين النصين التشريعيين , كان قد حصل الكثير من الوقف الذي كان يطال الأراضي الأميرية , حيث لم يمس هذا النص بها ، بسبب عدم رجعية القوانين في مثل هذه الحالات. وتاريخياَ مع ظهور هذا النص وبسبب ما كان يدور حول أموال الوقف من خلافات بين المستحقين , من ذراري الواقفين وبين جهات البر والخير , وبسبب تشعب الأحكام والقواعد الشرعية الخاصة بالوقف , التي كانت تحكم الوقف فيما سبق , نجد أنه بدأت جملة من الخلافات بين الجهات المشرفة على الوقف من طرف , وبين الواقفين من طرف أخر , وبين المستحقين لجزء من عائدات الوقف من طرف ثالث , فبات الكثير من الواقفين يقيمون الدعاوي لإثبات صحة ما أوقفوه من أراضي , وكذلك بدأ المستحقون يقيمون دعاوي مماثلة لإثبات صحة ما تم وقفه عليهم , كما بدأت الجهات المشرفة على الوقف تقيم دعاويها الخاصة لإثبات حقوقها على هذه الأموال الموقوفة , مما أفرز الكثير من الخلافات والإشارات التي كانت تُوضع في معرض مثل هذه الدعاوي , بغية حماية حقوق الواقفين أو المستحقين أو حقوق الجهات المشرفة على إدارة واستثمار الوقف. ولكن أهم سبب زاد في حدة هذه الخلافات هو كثرة الآراء الفقهية التي كانت ولازالت تحكم الوقف , وكثرة وتعدد أنواع الوقف وتصنيفاته المختلفة , وكثرة الحقوق التي كان يرتبها النظام القانوني للوقف على الأراضي الوقفية فضلاَ عما أثير من خلافات شرعية وقضائية حول هذه المعاملات , الأمر الذي أفرز الكثير من القيود والإشارات التي كانت توضع على صحائف عقارات الوقف , مما كان يحفظ ويبين حقوق كل من له علاقة بمثل هذه الحقوق.